ضمن سلسلة مقالات تستهدف رسم صورة واضحة للشباب العربي عن السياسات الخارجية الأمريكية: محدداتها، أهدافها، ومراحل تطورها تجاه العديد من القوى العالمية الفاعلة. سندقق النظر في هذا المقال في العلاقات الأمريكية تجاه البلدان الآسيوية الفاعلة إقليميًا ودوليًا.


كيف ولد الاهتمام الأمريكي بآسيا؟

يتحدد الإطار الخارجى للسياسة الأمريكية تجاه دول شرقي آسيا بأربع أُطر رئيسية كالآتي:

أولًا: الرخاء الأمريكي

تأتي الاهتمامات الاقتصادية على رأس الأجندة الخارجية الأمريكية. وهكذا ولدت العلاقات الأولى بين الولايات المتحدة وآسيا. ففي العام 1853 اتجهت عدة سفن تابعة للأسطول البحري الأمريكي بقيادة الضابط «ماثيو كالبريث بيرري» في رحلة استكشافية لبلدان الشرق الأقصى. كانت الرحلة تهدف إلى إقامة علاقات دبلوماسية، واتفاقيات اقتصادية مع الحكومة اليابانية، وربطها بالقوى الغربية العظمى، وإقامة علاقات مفتوحة لليابان مع الولايات المتحدة. لاحقًا، وأثناء الحرب الأمريكية-الإسبانية عام 1898، سعت الولايات المتحدة بكل قوة لبسط نفوذها على الفلبين كمستعمرة أمريكية لأسباب عدة؛ في مقدمتها الأهمية الإقتصادية للعاصمة الفلبينية «مانيلا – Manila» ومينائها البحري المدخل الاستراتيجي -في ذلك الحين- للقارة الآسيوية.

ثانيًا: القوة والهيمنة الأمريكية

الولايات, المتحدة, تاريخ, ألفريد,ماهان
«ألفريد ثاير ماهان» ضابط ومؤرخ عسكري، عرف بأنه أهم استراتيجي أمريكي في القرن الـ19

بدأت الولايات المتحدة في القرن الـ 19 تأسيس أسطولها البحري. بحلول عام 1893 احتل الأسطول الأمريكي المرتبة السابعة من بين الأساطيل البحرية للدول العظمى. وفي كتابه “The Influence Of Sea Power Upon History” جادل «ألفريد ثاير ماهان» المعروف بأنه الاستراتيجي الأهم في الولايات المتحدة في القرن الـ 19، بأن دولة كالولايات المتحدة الأمريكية يحدّها المحيط شرقًا وغربًا إذا امتلكت قوة بحرية كبيرة؛ فإنها ستذهب بعيدًا بين الدول العظمى المسيطرة على الخريطة الجيوبوليتيكية للعالم. وبالفعل، ساعد الأسطول الأمريكي الولايات المتحدة كثيرًا في تأمين طرق التجارة الخاصة بها وبحلفائها.

استطاعت الولايات المتحدة كذلك بفضل أسطولها البحري أن تبسط نفوذها العسكري على جزيرة «هاواي» عام 1897-1898 حتى قبل الحرب الأمريكية-الإسبانية، حتى وإن لم تتحول إلى ولاية رسمية ضمن الولايات الأمريكية قبل منتصف القرن الـ 20. إضافة لمحاولاتها المستمرة لإقامة علاقات إقتصادية، وتأمين طرق الملاحة بالشرق الآسيوي مطلع منتصف القرن الـ 19 وحتى يومنا هذا.

ثالثًا: السلام

رعاية السلام العالمي جزء لا يتجزأ من الحفاظ على أمن الولايات المتحدة ومصالحها في العالم. وهو دور لعبته الولايات المتحدة مبكرًا في آسيا. ففي فبراير عام 1904 اندلعت الحرب بين الإمبراطورية اليابانية ونظيرتها الروسية اختلافًا على تقسيم دوائر النفوذ شرقي آسيا.

فقد توغلت الإمبراطورية الروسية كثيرًا في تلك المنطقة حتى وصلت لاستعمار كوريا دون أي اعتبار للإمبراطورية اليابانية. وبدون إعلان الحرب، قصفت اليابان أسطولًا روسيا، وقتلت وأسرت جنود روس يقدر عددهم بالآلاف.

معاهدة,بورتسموث, روسيا,اليابان
صورة لمعاهدة السلام أو معاهدة «بورتسموث» التي وقعتها كلًا من روسيا واليابان بعد تدخل الرئيس الأمريكي «ثيودور روزفلت» لإنهاء الحرب بينهما في الـ5 من سبتمبر/ أيلول عام 1905

استمرت الحرب ما بين فبراير/شباط عام 1904 حتى الـ5 من سبتمبر/ أيلول عام 1905. وبدت الخسائر لكلا الطرفين أكثر مما كان مخطط له. انتصرت اليابان بموجب معاهدة «بورتسموث» التي استطاع الرئيس الأمريكي «تيودور روزفلت» إتمامها بفضل الجهود الدبلوماسية الأمريكية المبذولة للتوسط بين الطرفين المتنازعين. حاز «روزفلت» على جائزة نوبل للسلام تقديرًا لجهوده في التوسط بين الأطراف المتنازعة، وإجادته دور الوسيط المتعقل بين طرفي النزاع.


رابعًا: قيم الإمبراطورية الأمريكية

تجيد الولايات المتحدة توظيف قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية لخدمة مصالحها في العالم. ففي الحرب الأمريكية-الإسبانية عام 1898، كان ثمة صراع بين الطرفين على ضم الفلبين لمنطقة النفوذ الخاصة بكليهما.

سعى الفلبينيون بكل قوة كجزء من هذه الحرب للتخلص من التبعية الإسبانية رغبة في الاستقلال. وبدت الولايات المتحدة لهم منفذًا للحرية والاستقلالية. لكنهم أيضًا لم يحاربوا ليكونوا مستعمرة أمريكية بدلًا من إسبانية. ساعدت القوات الأمريكية بالفعل الفلبينيين للتخلص من الوصاية الإسبانية، ولكنها تحركت أيضا لتقوّض حركة الاستقلال الفلبينية.

قاد «إميليو أجولاندو» حركة العصيان ضد الإسبان. ونُفي خارج الفلبين طوال فترة إقامتهم. عاد مع اندلاع الحرب ليقود من جديد حركة الاستقلال الوطني ضد الإسبان لكنه صرّح عام 1899 أنه عاد لأجل الفلبين، ولم يعد ليقاتل الإسبان نيابة عن الأمريكيين.


الولايات المتحدة والصين: الأصدقاء الألداء

ثلاث كلمات يتمحور حولها تاريخ علاقات الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية: المواجهة، الشراكة، المنافسة.

المواجهة: عداوة الحرب الباردة 1949-1972

أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، سعت الولايات المتحدة لتشكيل حلفا شرقي آسيا، وفرض حزام خانق على الاتحاد السوفيتي من الجنوب. هذا الحلف ضم كلاً من: اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، الفلبين، نيوزيلاند، استراليا -التي قاتلت قواتها بالفعل جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية، ماليزيا، تايلاند.

خارج هذا الإطار كانت هناك كمبوديا التي ظلت حليفًا للولايات المتحدة حتى عام 1970، حين قامت الثورة وجاءت بالحزب الشيوعي لسُدة الحُكم. فيتنام الجنوبية ظلت حليفًا كذلك للولايات المتحدة حتى إعادة توحيد البلاد بعد الحرب 1975، وبعد مساعدة الصين و الاتحاد السوفييتي لجمهورية فيتنام الديمقراطية (فيتنام الشمالية)، وجبهة التحرير التحرير الوطنية للانتصار فى الحرب.

الشراكة: مرحلة رأب الصدع 1971-1979

يبدأ رأب الصدع بعام 1971 في عهد الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون»، حيث التقى مستشاره للأمن القومي «هنري كيسنجر» سرًا بأول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية «تشو ان لاي» بعد وساطة باكستانية. تناقش الطرفان في إمكانية فتح علاقة بين البلدين بعد أكثر من عقدين من العداوة البيّنة. أسفرت المحادثات السرية التي استمرت نحو عام عن إعلان الرئيس «نيكسون» نيته زيارة الصين والتقاء الرئيس الصيني «ماو تسي تونغ» بعدما كان أحد أشد السياسيين معارضة للشيوعية كرئيس، وقبل ذلك في الخمسينات كسيناتور وكنائب للرئيس!.

صحيح أن الطرفين لم يصلا خلال هذه اللقاءات إلى تكوين علاقات دبلوماسية واضحة المعالم، لكنهم اتفقوا على إمكانية حدوث ذلك. خريطة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وضعت بشكلها النهائي عام 1979 بزيارة الرئيس الصينى «دينج شياو بينج» للولايات المتحدة التي كان يحكمها في ذلك الوقت الرئيس الأسبق «جيمي كارتر»، كأول رئيس صيني يزور الولايات المتحدة منذ قيام الثورة الشيوعية عام 1949.

الثورة,الشيوعية,الصين,جيمي,كارتر
لماذا ارتأت الدولتان ضرورة نشوء علاقات دبلوماسية بينهما في هذا التوقيت؟

الإجابة على هذا التساؤل تأتي في عناصر رئيسية مثل؛ حسابات الجيوبوليتيك، الإصلاح الاقتصادي الصيني.

أولًا: حسابات الجيوبوليتيك:

إذا افترضنا أن لدينا ثلاثة أضلاع لمثلث القوى الأكثر فاعلية في المنطقة الشرق آسيوية: الولايات المتحدة والصين، والاتحاد السوفييتي؛ فإن أي تعاون بين 2 من الأضلاع يجعلهما أكثر فاعلية من الضلع المتبقي. الصين كدولة شيوعية كانت علاقتها بالاتحاد السوفييتي مشوبة بالتوتر نتيجة التنافس على زعامة العالم الشيوعي، حتى أنهم في مارس/ آذار عام 1969 اكتووا بلهيب الحرب التي نشأت بينهما؛ صراعًا على ترسيم الحدود بين البلدين، وتنازعهما على ملكية جزيرة «تشينباوى» التي تقع على نهر «آسوري».

ثانيًا: الإصلاح الاقتصادي الصيني:

الإصلاحات الإقتصادية التي قام بها الرئيس «دينج شياو بينج» منتصف وأواخر السبعينات، ورغبته في إقامة علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة لذاتها، وكبوابة لعددٍ أكبر من دول المجتمع الغربي؛ دفعا الصين إلى التخلي عن صلابتها الأيديولوجية تحت ضغوط المصلحة الوطنية.

المنافسة: صراع الاقتصادات العملاقة

تنحصر المواجهة حاليا بين البلدين في الجانب الاقتصادي، والذي يمثل أبرز الخطوط العريضة للسياسات الصينية؛ إضافة للمواقف الإقليمية المتباينة، وسبل الضغط الدولي لتمرير تلك الرؤى والمواقف.فالصين حاليًا تشكل ثاني أكبر اقتصاديات العالم، وتلعب أدوارًا دبلوماسية في عدد من القضايا على جبهات متعددة مثل: آسيا وإفريقيا، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية وأوروبا. أما عسكريًا، تعد الصين ثالث أكبر القوى العسكرية في العالم. لديها أسطول بحري ضخم مُعد للتدخل العسكري خارج مياه الصين الإقليمية. نفّذ واحدة من العمليات البحرية العسكرية في سواحل أفريقيا الشرقية، تحديدًا في الصومال ضمن حرب شاملة للقضاء على خطر القرصنة.

شهدت العلاقات الإقتصادية بين البلدين نموًا مذهلًا، حيث نما حجم التجارة بين البلدين على النحو التالي: عام 1989 بلغ حجم التجارة السنوية بينهما 18 بليون دولار، وعام 2000 بلغ 116 بليون دولار، وفي 2012 بلغ 536 بليون دولار.

قُدرت صادرات الصين للولايات المتحدة عام 2012 بنحو 426 بليون دولار، بينما قدرت الصادرات الأمريكية للصين بنحو 110 بليون دولار بعجز تجاري نحو 316 بليون دولار لصالح جمهورية الصين على الولايات المتحدة. هذا الرقم يمثل تقريبًا 60% من إجمالي العجز التجاري للولايات المتحدة.

اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية الصين رسميًا بخفض قيمة عملتها السوقية عمدًا للزج بصادراتها في منافسة غير عادلة. الصين بدورها رفضت هذا الادعاء، وأنكرت خوضها ما يُعرف بـحرب العملات؛ إلا أن هذه إحدى القضايا الإقتصادية المثيرة للنزاع بين البلدين.

كلا البلدين يتبادلان الاتهامات بشأن ممارسات غير عادلة للترويج لصادراتهما من تكنولوجيا الطاقة المتجددة؛ الأمر الذي ينتهك قواعد التجارة الدولية. بعض الباحثين الاقتصاديين يرون في هذا السياق أن هذه المديونية تعد مصدر نفوذ اقتصادي صيني على الولايات المتحدة.

بعض القضايا الأخرى العالقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية تحتاج إلى مزيد من التفصيل، نكتفي بذكرها منها: مشاكل حقوق الإنسان في بعض المقاطعات الصينية، والضغط من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على الصين لالتزام المواثيق الدولية تجاهها مثل:

مقاطعة التبت،مسلمي الإيغور، مقاطعة شينجيانغ؛ كذلك حرية استخدام الانترنت داخل الصين، وغيرها من القضايا التي لا تزال -وستظل- مناط الشد والجذب بين الطرفين.


مناطق التوتر في العلاقات الأمريكية الصينية

جزر سينكاكو المتنازع عليها

إحدى أهم المشكلات التي تهم سكان هذا الإقليم النزاع الصيني-الياباني على جزر «سينكاكو – Senkaku كما يسميها اليابانيون أو جزر «دياويو – Diaoyudao» كما يسميها الصينيون. عوامل كثيرة تقف خلف هذا النزاع تاريخية واقتصادية وسياسية.

التحدّي الذي يواجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة جرّاء هذا النزاع؛ هو كيفية حل النزاع القائم بالطرق السلمية. فهي عازمة بالتأكيد على دعم الحليف التقليدي اليابان، وراغبة أيضًا في عدم خسارة الجانب الصيني.

لذلك تحاول الولايات المتحدة جاهدة إزاء هذه القضية أن تعيد الطمأنينة للجانب الياباني -دون أن تجعله يشعر أنه يمتلك من حليفه الأمريكي شيكًا على بياض-، وتردع العدوان الصيني إذا ما حدث. لكن على أية حال فالمؤشرات تقول بأن الجانب الصيني لا يسعى لحل الأمور عسكريًا.

أزمة تايوان

لطالما اعتبرت جمهورية الصين الشعبية جمهورية الصين (تايوان) حقًا أصيلًا لها. وتروّج دائمًا لفكرة الصين الموحدة، وأن السيادة على الأراضي الصينية يجب أن تكون لحكومة الصين الشعبية. جمهورية الصين (تايوان) تعتبر حليفًا للولايات المتحدة التي قامت نتيجة الحرب الباردة بتدريب عناصر للقوات المسلحة لجمهورية الصين وتزويديهم بالسلاح اللازم.

ويتركز الأمر بشكل كبير في إدارة الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» والرئيس الحالي «باراك أوباما» في استفادة الولايات المتحدة من مبيعات الأسلحة. ومع ذلك ترى الولايات المتحدة ضرورة الحل السلمي للقضية، وتدفع الطرفين في هذا الاتجاه.

جزر بحر الصين الجنوبي

تعتبر الصين أكبر دائن للولايات المتحدة الأمريكية بمبلغ مقدّر بنحو 1.3 تريليون دولار في شكل سندات خزانة؛ هذه السندات هي التي يرجع إليها تمويل عجز الموازنة الأمريكية.

بحر الصين الجنوبي يعتبر أكبر بحار العالم بجانب البحر المتوسط. له أهمية ملاحية كبيرة تكمن في أن أكثر من ثلث حركة الشحن العالمية تمر بمياهه. القيمة التجارية لهذه الشحنات تزيد عن 5 تريليونات دولار، كما يعتقد أن به احتياطات كبيرة من الغاز والنفط.

تحيط هذه المياه دولًا كالفلبين وفيتنام، وماليزيا، جميعهم يتنازعون على ملكية الجزر المتناثرة في مياه البحر. أغلب هذه الجزر غير مأهولة، وعددها يفوق الـ 200 جزيرة. بعضها لا تعدو مساحته مساحة الصخرة الصغيرة وسط مياه البحر. تدّعي جمهورية الصين الشعبية ملكيتها لهذه الجزر، إلا أنه فى عام 2011 حطّ مجموعة من الفلبينيين جوا على جزيرة «تشونغ يه داو» الواقعة في البحر رافعين العلم الفلبيني على أرض الجزيرة.

رغم أن هذه القضية إحدى بؤر المواجهة الساخنة بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية لارتباطها بقوة الصين البحرية، واستعراض الأسطول البحري الصيني الذي تفرض من خلاله الصين سيطرتها على واحدة من أهم مناطق الملاحة في العالم؛ إلا أن الولايات المتحدة تسعى في اتجاه الحل السلمي لهذا النزاع.

ختامًا، كما أسلفنا، تقوم العلاقات الأمريكية الصينية على ثلاثة محاور رئيسية: المواجهة حيث تحاول الولايات المتحدة احتواء الغريم الصيني؛ والتعاون حيث يبدو أيضًا أن الولايات المتحدة قررت الاستفادة المتبادلة من الصين وإعلاء مبادئ التكامل الإقتصادي بين البلدين، والمنافسة التي لا تدفع بالضرورة إلى المواجهة أو تشكيل العداوات، بل تعني بروز حالة من التنافس الاقتصادى والجيوبوليتيكي بين البلدين.