هي تلك السيدة صغيرة الجسم، خفيفة الروح، الشبيهة بالأطفال.

تقول عن نفسها أن من يراها لن يعرفها، لا لبساطة مظهرها أو قصر شعرها الصبياني، بل لأنها ما أن ترى حجرا في الشارع حتى تظل تركله بقدمها كصبي بقال يجد في هذا متعته الوحيدة أثناء تسليم الطلبات لأن عمله لا يسمح له باللعب، لكن ماذا لو رآها أحد المارة؟! حينئذٍ تتوقف وتستعيد وقارها مرة أخرى وتتابع طريقها.

أدهشتني رضوى بشجاعتها أن تحكي كل هذه التفاصيل عن حياتها وتنشرها هكذا لنا، وهي تعلم طبعا أننا ما إن نقرأها حتى تصير ملكاً لنا بدورها، هل أحبت تخليد ذكراها؟ إفادتنا بما تعلمته مثلا؟ أم هي تعلم أن قصتها بعد ذلك ستصبح بداخل كل منا، جزءا منه لا يغادره، عقدة أخرى في القلب تساعده على النبض؟!

أدهشتني مرة أخرى لجمال كتابتها، وليس هذا بغريب عن معشر الكتاب، لكن المختلف في رضوى أنها لا تكثر من المحسنات بل غالباً لا تستخدمها مطلقاً. هي فقط تحكي وتقصّ؛ تحكي لي عن زياراتها المتكررة للمستشفى فلا أجد رائحة التعقيم والأدوية، أو أجدها وأحبها، أو أجدها وأنشغل برضوى عنها، وقد قلت من قبل أن جمال كلماتها إنما هو جمالها تسكبه على الكلمات من روحها.

أواصل عملي رباعي الدفع: الجامعة، والكتابة ، ومهامي كمواطنة تساهم بدرجة ما في العمل العام، ورعاية شئون بيتي وأسرتي.

توقفت عند هذه الجملة لبعض الوقت، تحديدا عند آخرها «رعاية شئون بيتي وأسرتي».. لوهلة تخيلت رضوى بمطبخها تعد وجبة الغداء أو ليلا وهي تسأل مريد: «ناكل إيه بكرة؟» فيرمقها باسما ويقول: «أي حاجة». ارتبكت بشدة.. لم أتخيل رضوى وهي في السوق تحمل قائمة مشترياتها ومن ضمنها مساحيق التنظيف وما ينقص البيت. ربما مع محاولات رضوى أن تقربني منها طول الرواية إلا أنني ما زلت غير قادرة على استيعاب أنها، وقبل كل شيء، سيدة.

«افتحوا الأبواب لتدخل السيدة» يطلب منا مريد في صوت جهوري.. تعجبت لطلبه فهو كمن يطلب من الناس أن يتنفسوا. بالأساس لو أعرف أن رضوى ستأتي إلي فلن أصنع باباً. يحاول مريد إخفاء حزنه، يصرخ في وجهه أن اذهب من أقرب باب مطرودا غير مأسوف عليك، ولا أفهم كيف أمكنه التخلص من الحزن على رضوى بهذه السرعة والشجاعة، لكن المهم أنه فعل، ليوجه كل اهتمامه لرضوى.

واشنطن، أسبانيا، لوس أنجلوس، أكياد بالقليوبية، عيادة دافنشي، نيويورك، شقة المحامي وابنة الدكتور عبدالوهاب، شارع محمد محمود، ماسبيرو، تنقلت مع رضوى في كل هذه الأماكن في أقل من يومين وكل ما احتجته هو بعض التركيز و ملمس الأوراق.

في هذه الرواية كانت رضوى تكتب لي، كانت تنبهني من وقت لآخر لجزء مهم ستعرض له، ومهما قلت أنني مستمتعة، تعتذر عن استطرادها في لوحة بيكاسو أو جدارية سيكييروس، لكنني كنت أبتهج أيما ابتهاج لأنني وأخيرا اتخذت أمام رضوى موقف الطالبة وصارت هي تشرح لي بالعربية التي أحبها من فمها سلسة فصيحة.

ولأنها ثرثارة كما تصف نفسها، اتخذت قرارها بأن تطلب النقل لمدرسة أخرى لا يحرمونها التحدث بالعربية فيها، اتخذت القرار وهي تحدق في النيل من شرفة غرفتها أم في حوش المدرسة حينما «اتكعبلت» في نفسها؟ في الحقيقة لا يهمني الأمر، فقد سعدتُ بقرارها وسعدتُ أكثر لأنني لو كنت مكانها لاتخذته أيضا.

ولأنها من حزب «الشاطرة تغزل برجل حمار» فلما وجدت النفق مسدودا بمياه المطر تسلقت مع الناس جدارا مائلا زلقا لتصل إلى الجامعة لأجل طلابها الذين ينتظرون محاضرتها والذين لم يخذلوها فحضروا جميعا. دائما أتخيل الموقف وهي ترتدي بلوزة قصيرة الأكمام، لا تتفق وبرودة الجو، أتخيل نفسي مكانها، أتردد بين العودة والمضي قُدما ثم أختار التقدم لأنني أعرف الطعم المر الذي سيجد طريقه لحلقي ما أن أتراجع، نعم يا رضوى أنا اُشبهكِ.

هل تماهيت مع رضوى في الراوية فصرت أخلق بيني وبينها التشابهات؟ هل أحببتها لدرجة أنني صرت أشبهها في الحقيقة؟

– ربما، لا!

حاولت رضوى في فصلها الأخير أن تمحو عني شجن ذكرياتها، أو ألم رحلات المستشفي والسايبر نايف لكن كل هذا لم يوجعني، تحملته في صبر معها كما فعلت، فلا يصح بها أن تذكر لي عزمها على مواجهة المرض وأقول لها نعم أشبهكِ في هذا ثم أجزع.

قلت حاولت التخفيف عني فجاء فصلها الأخير كما لم ترد وكما لم أتوقع، كان مؤلما يا رضوى بكل ما فيه من الفرح والجمال، ليس لأنه فصلي الأخير معكِ، بل لأنني أحسست أنكِ تودعين العالم وتجعلين منه نافذة تنظرين بها إلى الأقارب والأحباب. أخبريني يا رضوى كيف أكون من الأحباب؟! أم علي أن أقنع بمكانتي كأحد الشباب والصبايا «الحلوين»؟!

رضوى عاشور اقتراح بوجود بشر أحسن.

هكذا يقول تميم راثيا أمه، ولو سمعت كلامه قبل قراءة بعض من سيرتها لظننتها مبالغة الشعراء المحمودة، أو حب الأم وإكبار قدرها، لكنه كان محقاً تماماً لذا لم يتمالك من يسمع إلا أن يقول له: “أحسنت”. نعم يا تميم أحسنت، ومالك ألاّ تحسن وأنت تصف الحسناء، بل لو شئت قل الحسن بذاته.

رضوى هي كل ما يمكن أن أتمناه لنفسي أن تكون عليه. كنت أحلم بمقابلتها، أشد على يدها وأتلمس في تجاعيد كفيها روعة الحياة، أسألها كيف وصفتني أكثر من مرة وكيف سردت أفعالي، أرجوها أن تخبرني بوصفتها التي تجعل الكلمة تنفذ للروح مباشرة، تشغل العقل كليةً وتمتلك القلب تماماً.

كيف يا رضوى تكتبين لنا عما نعرف فنجده جديدا تماما كأننا لم نعرفه وكأن غيركِ لم يقصّه، بل كأننا لم نعايش بعضه؟! وكيف تكتبين لنا عما لا نعرف فنجده مألوفا كأنك أخذتنا في الليالي في حضنك لتقصي علينا حكايتكِ؟! كيف تكتبين لنا عما لا نريد معرفته فنحبه أكثر ونريد منه المزيد؟! وكيف بعد هذا تطلبين منا أن نكون أفضل؟ من أين اكتسبتِ هذا الخيال الذي يخبركِ أننا سنضاهي رونقكِ في يومٍ ما؟!

بكى تميم عندما عزف له درويش على العود، وبكى عليّ عندما عزف له تميم على الطبلة، وقلتِ لي أنهما بكيا لأنهما ظنّا أنهما لن يصلا لهذه البراعة في العزف، ولأن مستواهما ما زال طفوليا غير محترف، وأنا أيضاً يا رضوى كلما قرأتُ لكِ بكيت.

أخذت مني رضوى في روايتها عدة وعود ألزمتُ بها نفسي، أبهجتني فكرة وجود أناس مثلها في العالم ، شدّت من أزري حينما قالت لي:

هناك احتمال آخر لتتويج مسعاكِ بغير الهزيمة.

لكن الأهم من كل هذا أنها عرفتني ما هو «أثقل من رضوى»، إن ما هو أثقل من رضوى، هو رضوى نفسها!