قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدا [سورة الكهف، الآية 109].

من دروس حضرة مولانا جلال الدين

«إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج»، قال هذه الجملة محبٌّ للحلاج بالطبع أراد أن يدافع عنه. أنا أحمل للحلاج حبًّا ولغيره من الكبار الذين أثروا وأضافوا وأبدعوا ولا تزال نصوصهم حاضرة ملهمة منقذة لأرواح وعقول كثيرة في عصرنا الحديث وفاتحة لباب رحمة وسَعة على لا نهائي يستعصي تقييده بزمان أو مكان أو طائفة، ورغم ذلك لن أدافع أو أغالي في محبته!

تذكرت هذه الجملة بعد قراءة كلمة أقل ما توصف به أنها سيئة للغاية وأسوأ ما فيها أنها لا تصدر عن خصومة حقيقية بل عن ترديد أجوف لكلمات مغرضة.

كتب أحدهم أن الرومي «زنديق فاجر» وهذا ليس جديدًا ولا إبداع فيه، فما أسهل الشتم الذي اعتاده «المتدينون صورةً». اعتمد كاتب الجملة على نصٍّ لأحد الأتراك كنت تحدثت عنه قبل أعوام ونبهت إلى ضعف كاتبه وما يطرحه فيه من أفكار، وللضرورة أتحدث عنه اليوم بعد اعتماد البعض عليه في تكوين وجهة نظره عن أعلام التصوف الكبار، وبخاصة الرّومي.


لو كان «عبد الرحمن الوكيل» صادقًا في خصومته لابتعد عن المتشابه وانشغل بما ثبتت نسبته للصوفية، لكنه كتب عن مصرع التصوف والآن لم يُصرع التصوف.

كثيرون قدّموا نقدًا للتصوف وأشهرهم في العصر الحديث الشيخ محمد الغزالي (ت 1996م)، فقد وجّه نقدًا لاذعًا للتصوف في بداية كتابه «الجانب العاطفي في الإسلام» وكما وصف بعضًا من الروايات الكتابية بأنها قُمامات فكرية، وصف كتابات الشيخ بأنها كُتبت لتهدم الإسلام! ورغم قوله الكثير عن المتصوفة وكتاباتهم إلاّ أنه أفاد منهم الكثير –كما أفاد شيخه حسن البنا- ومن يطالع «ركائز الإيمان بين القلب والعقل»، و«جدد حياتك» و«فن الذكر والدعاء» وغيرها من مؤلفاته يدرك ذلك بيسير مطالعة.

لا أذكر مثلاً أن الغزالي استخدم كلمة «المنكوح» أو أتى على ذكر «اللواط» وألصق ذلك بالصوفية، ولا أذكر أني قرأت عنده الألفاظ التي تتردد في كتابات «النصوصيين صورةً!». لعلّ الغزالي حاول الالتزام بالتخلق وهو يخاصم هذه الطائفة في بعض أفكارها أو آرائها؛ لذا عزف عن استخدام هذه الألفاظ وهو الداعية الذي يريد نشر فكرته، لكنني قرأت شيئًا من ذلك عند «عبد الرحمن الوكيل» رئيس جماعة أنصار السنة في مصر، الذي كتب كتابًا بعنوان «هذه هي الصوفية» وقد ذاع وانتشر الكتاب في وقته ولا يزال يُعتمد عليه في الأدبيات السلفية. كان الوكيل مهتمًا بكل ما «نُسب» و«دُسّ» على الصوفية ويقدّمه على أنه التصوف!، ولو كان الرجل صادقًا في خصومته لابتعد عن المتشابه وانشغل بما ثبتت نسبته للصوفية وبسهولة يمكنه حسب المنهج السلفي أن يدين الصوفية، لكنه حاول بعلو الصوت وباختيار السيئ أن يزيد من حبكة الموضوع فكتب عن مصرع التصوف وللآن لم يُصرع التصوف بل على العكس يزيد وينتشر وتمتلئ الدنيا بأنوار المتصوفة (الزنادقة – الفاجرين!).


حاول غير واحد من أهل العصر الحديث أن يستفيدوا من التصوف بعد انشغالهم بالعمل الحركي ومن هؤلاء «الندوي»، -وقد كتبت عنه مادة تُنشر قريبًا إن شاء الله- هذا الرجل فُتن بالرومي من خلال كتابة شيخه الروحي «محمد إقبال»[1] وحديثه عن الرومي، وكذلك من خلال مطالعته لما كتبه «شبلي النعماني»[2].

حرص الندوي وهو يكتب عن أعلام الدعوة ورجالات الفكر في الإسلام أن يدوّن مادة عن الرومي جاءت موزعة على ثلاثة فصول ولأهميتها عنده أعاد طبعها بنفسه في كتابه الكبير وفي كتاب «ربانية لا رهبانية» وأعيد نشر المادة على استقلال مرارًا بعد وفاته في مصر وسوريا والهند، ولأن للرجل جمهورًا في السعودية أراد أحد الناشرين في المملكة أن ينقي كتابه أعلام الفكر والدعوة فحذف مادة الرومي (طالعتُ نسخة من هذه الطبعة قبل سنوات) لكنه لم يستطع بالطبع أن يحذف مادة الغزالي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو مشايخ الصوفية الآخرين ببساطة لأنه حافظ وليس فاهمًا. وانتشر كتاب الندوي ولا يزال مطلوبًا حتى هذه اللحظة ويتجدد طبعه في مصر وبيروت ودمشق!


انتبه إلى هذا الخطأ والخلل العقدي البيّن!، عند الندوي أحد الأتراك السلفيين -يعيش في المملكة السعودية ويعرف العربية والتركية – فانتخب من كلمات المثنوي كل ما سيق في مجال التمثيل والقص وكالعادة اقتطع الكلام من سياقه، ومثله بالطبع لا يؤمن بالرّمز أو التمثيل وإن ردد كل يوم من آي الذكر الحكيم سورة الكهف والبقرة وحديث النمل مع سليمان والهدهد وأصحاب الفيل؛ فما أجراه الله على لسانه ما يجريه على لسان أهل الغناء الهابط اليوم. ورغم أنه ألّف الكتاب حسب زعمه كوقفة مع الندوي فيما كتبه عن الرومي وعَنّن الكتاب بذلك، نسي عبر الـ500 صفحة أن يقف مع الندوي وظل مع مولانا جلال الدين الرومي ينتخب من روايات المؤرخين المتهافتة ما يدعم صورة رسمها للرومي (الخائن – الزنديق – الناكح والمنكوح!)، ولأنه ليس حَسَنَ الظنِّ -كما يُفترض بالمؤمن!- فلم يترك لخصمه مزية واحدة إلاّ ولوثها بترابه وطينه الزائد الذي يخرج من فم لا أظنه يحسن النطق إلا بما يسيء للبشر!.

أغلب ما يثار من الكتابة المضادة للفكر الصوفي عن مولانا جلال الدين مصدره غير صحيح ويعتمد على روايات منتخبة لا يحسن من خلالها تكوين رأي سليم

اعتمد الأخ التركي على ما يرويه «الأفلاكي» و«سبهسالار» وبالطبع ينتخب ما يفيده فحسب. وقد نبه غير واحد من دارسي الرومي على كون هذه المصادر تحتاج إلى مزيد انتباه وتدبر ونحن نروي عنها وننسب ما ورد فيها للرومي، وكما نفعل مع الآثار والمرويات الضعيفة إذا وجدنا لها شاهدًا يعضدها من كلام الشخص نفسه اعتمدناها، وإلا عُدّت واهية لا يمكن الاستناد إليها، سأضرب مثالاً على ذلك:

يروي أحمد الأفلاكي في «مناقب العارفين»[3] أن مولانا جلال الدين الرومي قد سرد على مريديه قصة ملخصها: سقط أحدُ النحويّين في البئر، فتقدم أحدُ الدّراويش نحو ذلك البئر وصاح قائلًا: أعطوني «ريزمان» و «دول» كي أسحب الرجل من البئر، وكان يقصد (الحبل والدلو). فاعترض هذا الأخير في زهوه واعتداده بنفسه على كلام الدرويش وخاطبه قائلًا: قل «رزان» و «دلو»!. تراجع الدرويشُ عن إنقاد النحوي وقال: «في هذه الحالة، اقبع في البئر حتى أنتهي من تعلم قواعد اللغة!».

يروي الأفلاكي أيضًا: «أن أحدهم كان يدق مسمارًا في حائط إحدى غرف المدرسة، فخاطبه مولانا جلال الدين الرومي قائلا: مدرستنا بيت الأولياء، وهذه غرفة شيخي شمس الدين، ألا تخاف غرز مسمار بها؟، فلتقلع عن هذا إلى الأبد: إني أحس أن المسمار قد دُقّ في قلبي».

ويروي أن مولانا جلال الدين الرومي كان جالسًا قرب أحد الجداول، فرأى حجرًا كبيرًا وسط الماء. فقال: «أصدقائي، كيف لهذا الحجر أن يصبح طينًا؟»، فأجابوا: «ربما عبر توالي سلسلة من الدورات وتغير الحالات»، فردّ مولانا قائلا: «نعم، سوف يصبح طينًا، لكن ستمرّ سنوات عدة دون أن تتغير قلوبنا المخلوقة من طمي، سوف تستمر في هذا التحجر، هذا الضيق وهذا الخزي [حيث هي غارقة الآن] حتى الموت».

مثل هذه المرويات من اليسير جدًا أن نتأكد من صحة نسبتها إذا قرأنا دفاتر المثنوي، فلها ما يماثلها من مرويات أو حكايات يوردها حضرة مولانا ويعلّم مريديه من خلالها، لكن هناك مرويات أخرى كثيرة أقل ما يقال عنها أسطورية وتجسد الصورة الشعبية التي تتضخم للولي على أيدي مريديه فيما بعد؛ لذا حذّر أكثر من كاتب ومحقق بدءًا من براون ونيكلسون والعلامة فروزانفر أهم محقق لسيرة مولانا جلال الدين الرومي وكتاباته وانتهاءً بـ «لويس فرانكلين» من كتاب مناقب العارفين للأفلاكي، إذ لا يصح الاعتماد عليه تاريخيًا وجعله مصدرًا أساسيًا من مصادر التعريف بالرّومي، ففيه مطالبٌ يُثبتها الأفلاكي لا يمكن تصديقها أبدًا، وروايته يفسدها غير قليل من تناقضات تاريخية وتضادات أُخر!.

ترجم وليم تشتيك الشطر الأكبر من المتن الضخم لـ «مقالات شمس تبريز» تحت عنوان «أنا والرومي: السيرة الذاتية لشمس تبريز»، مرتبًا من جديد على نحو مفيد الأجزاء المفككة من الأصل الفارسي في بنية قصصية مرتبة زمنيًّا تجعل التعليقات المتناثرة التي سجلها المريدون أكثر إفادة.

وهذا المصدر الرئيس يقدم دخولًا مباشرًا إلى فكر شمس وآرائه، ويذهب بنا بعيدًا عن الأساطير التقليدية، التي كثير منها حافظ عليه وواصل إحياءه ذلك الكتاب الشعبي في سير الأولياء لشمس الدين الأفلاكي المسمى «مناقب العارفين». على أن الأفلاكي ينبغي أن يقرأ بحذر وتنبه، لا بسذاجة وتسليم لما هو عليه: تجميع لروايات شفوية كانت تدور في قونية في الجيل الثاني والثالث وحتى الرابع بعد وفاة الرومي. ويظل عمل الأفلاكي يحتوي على تفاصيل تاريخية قيمة، وكذلك على المرويات الولائية والأسطورية التي تتصل بالرومي.

وعليه فإن أغلب ما يثار من الكتابة المضادة للفكر الصوفي عن مولانا جلال الدين لا يعوّل عليه كثيرًا لأن مصدره غير صحيح في أغلبه ويعتمد على روايات منتخبة لا يحسن من خلالها تكوين رأي سليم.

وسوف أتناول بالمناقشة ما ورد في الكتابة المضادة عن مولانا وصار شائعًا على ألسنة الشباب المتابع لبعض الكتبة السعوديين الهوى في المقال التالي إن شاء الله.


[1] : كتب أحد الكتّاب السعوديين (الدكتور محمد بن حسن الزير) مادة عن الندوي في مجلة عالم الكتاب عن الندي استقصى فيها ما كتبه الندوي عن الأدب الإسلامي من يطالع هذه المادة سيعرف كم محاضرة ألقاها الندوي عن إقبال وكم كلمة كتبها عنه، فضلاً عن تكرار الندوي لذكر إقبال في أغلب ما كتبه وصنّفه من مؤلفات، وفضلاً عن تأليفه كتابًا مستقلاً حاول أن يقدّم فيه إقبالاً للعالم العربي، حمل الكتاب عنوان «روائع إقبال»، ومن كلام إقبال في هدية الحجاز ص69: أذّنتُ أذاني في الحرم كالرّومي، تعلّمتُ منه أسرار روحي، كان هو في فتنة عصره القديم، وأنا في فتنة عصري الحديث.[2] : البحوث عن إقبال وشبلي النعماني في الجامعات السعودية أكثر من أن تحصى، والكتّاب من أهل المملكة لا يزالون يقدّرون إقبال ويعتبرونه من أهل السلف الصالح في العصر الحديث، فلا أدري هل عرفوا أن شيخه وملهمه هو الرومي؟، وهل يعرف من يتبرّع لتكفير الرومي ذلك أم لا؟ ومن الطريف أن كاتبًا شهيرًا مثل الأستاذ «محمد قطب» صحب الندوي في رحلته إلى تركيا وزار مقام مولانا جلال الدين الرومي، واستمع لمحاضرة الندوي عنه في إستانبول وأشاد بها، كما أشاد من قبل «سيد قطب» بكتابات الندوي، والأستاذ محمد قطب من أهل العلم وأصحاب المكانة في السعودية، وقد ناقش رسالة عن موقف إقبال من الحضارة الغربية، وأجاز كاتبها الهندي الذي تحدث عن مشيخة مولانا جلال الدين الرومي لإقبال، فهل من يردد أن الرومي زنديق يقرأ بالفعل ويطالع أم هو الفجور في الخصومة فحسب؟!.[3] : نقلاً عن المنتخبات التي ترجمتها «عائشة موماد» عن اللغة الفرنسية.