لعل المأزق الأكبر الذي يواجه الحركات الإسلامية اليوم (وفي كل وقتٍ تنحدر فيه للتحزُّب) هو الرغبة في بديلٍ جاهز يستفرغ الجهد التنظيمي؛ بغض النظر عن مآل ذلك الجهد، أو طبيعة توظيفه، أو حتى المصرف الذي سينحدر إليه. وبناءً على تفرقتنا بين الحركة الإسلامية والحركات الإسلاميّة، باعتبار الأولى هي المجتمعات التي أسلمت وجهها لله والثانية هي التنظيمات والأحزاب المتقوقعة على هامشها؛ فوحدها الحركات/التنظيمات الحزبيّة الهرميّة قد تُعاني ذلك المأزق بعد انسداد أفق الممارسة السياسية. وتتفاقم الأزمة في حالات البنى صاحبة القواعد التنظيمية الكبيرة، مثل جماعة الإخوان؛ والتي كانت تستفرغ طاقتها في العمل الحزبي وحملاته الانتخابية، وفي التظاهُر، وفي الفعاليّات الخطابيّة، وفي الجعجعة الفارغة بغير طحن. فهذه البنى الهرميّة الصلبة تحتاج لأهداف دنيويّة مُحددة ومؤقّتة، ولمسارات مُعبَّدة للسير نحو تلك الأهداف، رغبة بتحقُّقها (اﻵن وهنا) لسببين: أولهما هو حفظ تماسُك التنظيم بتصريف جهد الشبكة الاجتماعية المغلقة لئلا تمور به البنية وتنفجر، وثانيهما حفظ ولاء الأفراد بجزرة الأهداف الدنيوية المعلَّقة فوق رؤوسهم، والتي تجعلهم يحتملون ثقل التنظيم الهرمي طمعًا ببلوغ فردوس “التمكين” الأرضي.

لكن المجتمعات الإنسانية الأوسع لا تُعاني غالبًا من أزمة البديل الجاهز. ببساطة لأنها مُجتمعات/شبكات مفتوحة تتفاعل فيها قوى مُتعارضة وتيّارات متنوّعة بقدر أكبر من الحريّة، برغم قيود الدول السلطويّة؛ لتصنع بدائلها بنفسها بمنأى عن السلطة.كذا يحتاج تراكُم الضغط في هذه المجتمعات لسنوات ورُبّما لعقود، حتى تنفجر؛ بعكس التنظيمات المغلقة. وهو ما يُفسِّر سبب ميل الأنظمة السياسية ما بعد الكولونيالية لفتح قنوات تفريغ/تنفيس للطاقات السلبيّة في المجتمعات التي تسلّطوا عليها، لتأخير الانفجار إلى يوم تغفل فيه تلك الأنظمة، وتتوهَّم أن السكون الاجتماعي صار حتميّة تاريخية لا تتغيّر. لكن تلك الأنظمة عينها لا تحرص دومًا على الشيء نفسه في تعاطيها مع التنظيمات المغلقة. فقد يكون دفع تلك التنظيمات للانفجار وسيلة ناجعة لتقويضها أو تفريغها وتجويفها؛ سواء بإدانة الكُلّ بتطرُّف البعض، أو بتقويض مصداقيّة الكُلّ بتعرية انبطاح وانتهازيّة ملأ التنظيم. المهم أن تشظّي التنظيمات، ومن قبله تشظّي التصوّرات؛ يخدم الأنظمة السياسية على المدى الطويل أكثر مما تنتفع به التنظيمات الحزبيّة على المدى القصير.

فإذا نحّيّنا جانبًا الرغبة المرضيّة للحركات الإسلاميّة في بديل جاهز، واطردنا مع قراءة تاريخها وواقعها؛ لوجدنا أن أخطر ما يواجه هؤلاء على الإطلاق هو: توهُّم الحركة والعروج إلى الله في بعض السكون والإخلاد إلى الأرض. فقد استسلموا للديباجات المجوّفة، وغفلوا تمامًا عن الكامن خلفها من علمنة في التصوّر والممارسة. وهو الفصام الذي تكرَّس بالتمركُز الكامل حول شبق المشاركة السياسيّة طوال أربعة عقود، ذلك الشبق الذي لم يتنازلوا في سبيله عن كل ثوابتهم فحسب، ليُقروا بقواعد اللعبة “الديمقراطية”؛ بل عجزوا كُليًا عن امتلاك أدواته والوفاء بكامل اشتراطاته التي تفترضها الدولة ما بعد الكولونيالية وصنّاعها والقائمين عليها، وهو ما ثبت بالدليل العملي في أول تجربة لهم في مصر. وبغض النظر عن إجهاض التجربة والعوائق التي وضِعت في سبيلها؛ فقد كان الأداء العام للإسلاميين كارثيًا بكل ما تحمله الكلمة من معان. فلا همّ عبّروا عن تصوّر إسلامي، ولا حتى عن رؤى علمانية، ناهيك عن القدرة على النزول بتلك الرؤى أو التصوّرات، المفتقدة أصلًا؛ من الفضاء النظري إلى الواقع العملي. صحيح أن صفوفهم أتخمت بالتقنيين والمهنيين الأكفاء، من منظور إجرائي؛ لكنهم حتى لم يستطيعوا توظيف تلك المعارف التقنيّة والإجرائية، التي يحملها أكثرهم؛ لإدارة الواقع بكفاءة، ولا أقول ترقيته. ويبدو أن معرفة هذا الجيل من التكنوقراط، وتنظيماته الحزبيّة؛ بالواقع، لا تختلف في نوعها ودرجتها كثيرًا عن معرفتهم ب”التصوّرات” التي يدّعونها، و”المرجعيّات” المتوهَّمة التي يخوضون المعارك دفاعًا عنها.

في الوقت نفسه؛ اكتمل انحسار دور الإخوان الدعوي-الاجتماعي، وانحصر في الترهّات الحزبيّة، والأوهام الفرقيّة، والدعايات المذهبيّة المخصصة للتوظيف السياسي؛ والتي تتسق مع تشظّي تصوّراتهم نتيجة للتماهي الكامل مع نظام الدول القطرية، والخضوع لسُلّم قيمه، ومن ثم إعادة توجيه مسار الحركة الإسلامية، بعد تشظّيها؛ طبقًا لأولويّات تلك الدول، التي اصطنعتها القوى الكولونياليّة اصطناعًا لتستمر في خدمة مصالحها بعد زوال الوجود العسكري الأجنبي. وقد استمرّ مسلسل الانحسار بعد الانقلاب العسكري في مصر، حتى أوشك أن يعود بالحركة (اجتماعيًا) إلى مُربّع الحصار الناصري؛ لتُفرز واقع حصار اجتماعيّ لا يختلف كثيرًا عن الواقع الناصري إلا في كثرة المنابر الإعلاميّة “الحُرّة”، والتي يمكن استخدامها لسبّ الانقلابيين والتشنيع عليهم، والطعن في أنسابهم! فتحولت المعركة إلى تلاسُن بين ضارب ومضروب، وصراع “إعلاميّ” على السُلطة ودوائر التأثير بين من يملك أدوات الاحتفاظ بمقاعدها وكتابة تاريخها، وبين من لا يملك سوى الجعجعة ويخاف حتى من المواجهة الإعلامية المفتوحة، والتي قد تكشف انتهازيّّته، وتطعن مصداقيّته في مقتل. وتآكل من ثمّ أفق الحركات “الإسلامية” من طلب “الشهادة” في سبيل المكاسب السياسية، إلى بعض المسيرات والتظاهُرات لزوم تفريغ الكبت التنظيمي، قبل أن ينحدر إلى التفاوض “المجرَّد” رغبة في الاحتفاظ ببعض مكاسب “العقد السياسي” المشبوه؛ جنبًا إلى جنب مع تبادُل الاتهامات والسباب من خلال الإعلام، وهو ما يخدم الانقلابيين، ولا يغلق فحسب الباب أمام أية مراجعات حقيقيّة قد تُفيد منها تلك الحركات في قابل، بل ينهش ما بقي من رصيد أخلاقي للحركة الإسلاميّة بسرعة.

وبرغم مبادرات المصالحة المتكررة، التي تبدو أحيانًا وكأنها تصُب في صالح الإخوان وبعض من انحاز إليهم؛ إلا أن “المعركة” السياسيّة تبدو اﻵن وكأنها تنحدر لمسار عبثي حتمي، خصوصًا إذا كانت نتيجة المصالحة هي عودة الإخوان إلى الحياة السياسية ثانية، بدون أية تغيير حقيقي في الوعي والإدراك والتصوّرات؛ مما يعني بقاء أكثر التنظيمات والأحزاب الإسلامية سجينة قفص الصراع على السلطة، ولو تغيّرت طبيعة الصراع نفسه، وانتقلت ساحته من شاشات التلفاز إلى البرلمان. هذا الدرك سيؤدي لمزيد من الخسائر الكارثيّة على مستويات الخطاب والممارسة (ناهيك عن التصوّرات المهلهلة أصلًا!)، سواء باستمرار الكتل الأكبر في مسلسل التنازُلات البراغماتيّة رغبة في إعادة الدمج في العمليّة السياسيّة، أو في تسارُع الحركة العكسيّة للجيوب الأصغر (والأكثر راديكاليّة) باتجاه مواقع التكفير أو العمل المسلّح، احتجاجًا على انبطاح التنظيمات الكُبرى. إن الحركتان، برغم اختلاف الوجهة الظاهري؛ تجسّدان ذات الانهمام الشبقي بالسلطة، والذي يُهمّش الدعوة (أو يؤجلها لعصر التمكين!) ويجعل الوصول إلي الدولة غاية، ونهاية للتاريخ، وبداية لفردوس “إسلامي” موهوم.

لقد اقتضى”العقد السياسي”، الذي أبرمته بعض تنظيمات الإسلاميين مع السلطة؛ اقتضى التخلّي الضمني عن الدور الدعوي-الاجتماعي لحساب دور حزبيّ تلعب فيه الحركات الإسلاميّة دور الفزّاعة، أو دور الشرير في مسرحيّة السلطة على “خشبة” الدول ما بعد الكولونيالية. وهو دور يقضي على الفعالية الاجتماعيّة الحقيقيّة للتنظيمات الحركيّة، لتنغلق على منتسبيها كأحزاب مؤدلجة يُستكمل بها الديكور السياسي، وتستمد هي والأنظمة الحاكمة –سواء بسواء- شرعيّتها من علو صوت “المعارض” الملتحي منزوع الفعاليّة، ومعدوم التأثير في تشكيل الواقع السياسي أو الاقتصادي.

إن تخلّي تلك الحركات/التنظيمات، وعلى رأسها جماعة الإخوان؛ عن الدور الحقيقي لحساب دور مسرحي قد أدّى لتآكل المصداقيّة الدعويّة-الاجتماعيّة، بعد أن تقوقعت الحركات في ردود أفعالها على “انتهاكات” السلطة. ردود أفعال عاقت أي فعل تأسيس معرفي أو تأصيل حركي حقيقي بالتفاوض/الصراع العبثي حول إدارة واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مُتردي، وهو توهُّم للفعل/الحركة من حيث هو سكون حقيقي؛ سكون يجعل استعادة الدور الدعوي-الاجتماعي أمرًا غاية في الصعوبة.

إن أولى خطوات الخروج من هذا المستنقع هي الانسحاب من اللعبة السياسيّة تمامًا، والتخلّي عن دور الفزّاعة، طمعًا بدور حقيقي؛ ليس على المستوى السياسي المباشر بالضرورة، بل بمحاولة استعادة الدور الدعوي-الاجتماعي، الحاكم بطبيعته على الفضاء السياسي؛ من خلال صناعة إجماع قيمي جديد.

إن وظيفة الحركة الإسلامية بالأصل هي بناء الإنسان، وليس بناء المصانع والمنازل، ولا حتى “فضح” مثالب النظام السياسي القائم بغية إحراجه أو مساومته أو ابتزازه، ليُفسح لفاعليها مجالًا في دائرة نفوذه السلطوي. إن تقديم بديل سياسي “يجيد” إدارة الدولة ما بعد الكولونيالية ليس على قائمة أولويات الحركة الإسلامية، ولا ينبغي له أن يكون. فالحركة دورها الرئيس والأوحد والأهم هو البلاغ والبيان العام نيابة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ من خلال صيرورة تربية مُنتسبيها ومجتمعها على مقتضيات ذلك البلاغ. صحيح أن هذا البيان سيطوي بطبيعة الحال نقدًا جذريًا عميقًا للواقع السياسي والاقتصادي، وصحيح أنه سيضع اللبنات القيمية لإعادة تشكيل هذا الواقع انطلاقًا من قاعدة الهرم الاجتماعي، وصحيح أنه قد يحتاج لبناء المنازل والمصانع؛ لكنه لن يقتصر على أي منهم، ولن يعتبرهم أولويات في حركته، ولن يمنح أيُّهم مركزيّة أبدا. إن علينا التمييز جيدًا بين الوسائل والغايات، وعدم التعامُل مع الوسائل باعتبارها غائيات نهائيّة؛ ففي ذلك يكمن الخطر كله.

وإذا كنت أدعو الحركات الإسلامية اليوم، بما تشتمل عليه من تنظيمات وأحزاب؛ إلى الانسحاب من المشهد السياسي ومحاولة استعادة دورها الأصلي، فمن المهم أن أبيّن بعض المحاذير التي يتوجب مراعاتها؛ حتى يؤتي الانسحاب أكله على المدى الطويل، ولا يكون مجرد رد فعل احتجاجي مما برعت الحركة في تصديره طوال عقود. وهاك بعضها:-

1- الحذر من التقوقع في أي ردود أفعال من أي نوع. فكل ردّ فعل تُدفع له الحركات الإسلامية، ولو بغير وعي؛ يُضيّق عليها الحصار دعويًا واجتماعيًا وسياسيًا، ويزيد عُزلتها عن المجتمع الذي يُفترض بها إزالة الحواجز التنظيمية والحزبيّة والأيديولوجية بينها وبينه، للتغلغُل الحقيقي في بنيته الاجتماعيّة، والتأثير فيه إنسانيًا ودعويًا. هذا الاستدراج الاستفزازي لن يمنع فحسب تفكُك الحركات والأحزاب الإسلامية وتحوّلها لتيّارات توعية دعويّة-اجتماعية ومن ثم يحاصر أثرها؛ بل سيُسهم في إعادة إنتاج خطابها وأيديولوجياتها الصلبة، بمظلوميّة تنظيميّة “لا تاريخية” تكتسب قداسة بمرور الوقت، فتُطيل عُمر تلك التنظيمات والأحزاب البائسة على حساب الحركة الإسلامية.

2- الحذر من تفريغ الكبت التنظيمي وتغطية الانسحاب السياسي بالجعجعة الإعلاميّة والفُحش والتشنيع على الخصوم، والتنظير والتأصيل لذلك. فهذا يجعل من اللغو في حسّ الأتباع عملًا يُقعد عن العمل الحقيقي. إن إطلاق العنان للسباب واللطم هو حل سياسي بامتياز، لتفريغ الكبت؛ مثله مثل مجالس العزاء ومجالس اللعن التي اشتهرت في تاريخ بعض الفرق الشيعيّة. وهو حل رائع لإخماد أية جذوة حقيقيّة قد تدفع للتغيير، فاللعن والسب حين يتحوّل لفعل اجتماعي منظّم على هذا المستوى؛ يُفرغ كل الطاقة الاجتماعية في الهواء، ولا يُبقي شيئًا لساعة الجد. فكأنه طقس وثني يستدعي الأتباع بدون عقل وبدون شعور حقيقيّ؛ فقط بالتداعي وعلو الجلبة وضجيج الطبل! وإذا كانت مجالس العزاء الشيعيّة تبني وعيًا تاريخيًا بسرديّة مُتكاملة مُتماسكة ذات دلالة وحُجيّة في سياقها، فإن اللعن والسبّ في سياق الحركات الإسلاميّة السُنيّة لا يبني وعيًا من أي نوع؛ ذلك أن تلك الحركات نفسها تجسّد حالة من القطيعة التاريخيّة في سياقها، وتعاني هي والمنتمين لها من ضمور شديد وانتقائيّة طوباويّة في الوعي التاريخي، ضمور شبه مقصود ليسهُل توظيف تلك الحركات في سياق الدول القُطريّة. إن سب سيدنا أبو بكر الصديق (أو غيره!) لمشرِك هو مُجرَّد رد فعل فردي، غضبة فردية آنيّة لم تُقعده عن العمل الحقيقي؛ لكنه ليس نمط الحركة الاجتماعية، ولا رد فعل اجتماعي منظّم. إذ لم يتجمَّع الصحابة خلف الصدّيق، رضي الله عنه؛ في طقس شتمٍ جماعيّ! إن التأصيل للسبّ كفعلٍ اجتماعي مُنظّم، وعدم التعامُل معه كرد فعل فردي قد يأتيه المسلم غضبًا ثم يتوب عنه؛ سقوط أخلاقي للحركة الإسلاميّة سيؤدي لتآكُل مروءة أفرادها قبل تآكُل رصيدها الاجتماعي. إذ أن التوبة الجماعيّة عن مثل هذا الفحش أمرٌ أقرب للمستحيل!

3- الحذر من مجاراة الهوس الاجتماعي المعاصر بالحشد، دون مصلحة حقيقيّة للحركة الإسلاميّة من وراءه. فهذا الهوس، الذي جسّدته عقليّة مُشجّعي كرة القدم (الألتراس)، وانتقل إلى الإسلاميين؛ ليس بالانهمام بالكم فحسب، ولكن باستخدام ذات الوسائل في التعبير؛ سواء الألعاب الناريّة، أو استخدام الألحان التي يُرددها الألتراس في أناشيد حركيّة ودعويّة في المسيرات والتظاهُرات! هذا الحشد أيضًا تفريغ غير صحّي للكبت، وإن كان أكثر خطورة؛ فهو مُضلل لدرجة أنه يُعيد صياغة تصوّرات القيادات المهلهلة التي ابتلينا بها، والتي تتوهّم الحق في تكاثُر الأنصار … إن كانوا انصارًا حقًا! الأكثر خطورة أن هذا الحشد يجعل التنظيم يغرق تمامًا في صيرورة التفريغ العبثي لطاقاته، ومن ثم تتفاقم أزمة تفريغ جهد الشبكة كلّما ازداد حجمها بغير ضبط نوعيّ/قيمي لهذه الزيادة. وإذا كان تبادُل النخب والقيادات وأبناء الطبقات البورجوازيّة اللعن والشتم في الإعلام المرئي ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي خطيرًا، فإنه يصير أكثر خطورة إذا انتقل لحشود غوغائيّة في الشوارع. ليس لأن تلك الحشود قد تحدث “تغييرًا حقيقيًا” من خلال التلاعُن والعياذ بالله؛ بل لأنها ستشحن الفضاء السياسي والاجتماعي كذبًا بغير ناتج حاشا التفرُّق الحتمي بعد التعب من طول النباح، ليتبدد القدر الأكبر من جهد شرائح اجتماعيّة عريضة، لم يُبذل أدنى جهد في تربيتها أو بناء وعيها. هذا إن انقضت المسيرات الحاشدة والمشتعلة بغير صدام مع المجتمع، صدام لا مصلحة فيه على الإطلاق، بل على العكس؛ صدام يبني مفاصلة مع الجماهير على تصوّرات مغلوطة وأولويات مقلوبة.

……

لقد قضت الحركة الإسلامية في إيران ما يقرُب من 15 عامًا (1963-1978) تُربّي الحشود من خلال عمل مُنظّم في بناء الوعي والتصوّرات بالمحاضرات والندوات ونشر الكتب وتدارُسها مع شرائط وخطب القيادات الثوريّة من العلماء والمفكّرين. فكانت “حسينيّة إرشاد” في طهران، التي حاضر فيها أمثال شريعتي ومطهري؛ هي القيادة التربوية والسياسيّة ومركز توجيه الحشود التي بُذل الجهد الجهيد في تثقيفها وتوجيهها برغم حصار مخابرات الشاه. حتى إذا خرجت الجماهير إلى الشوارع؛ كانت طليعتها مُعدَّة إعدادًا نفسيًا ومعرفيًا وتربويًا بالدرجة التي تؤهلها للتصدّي لمسئوليّة قيادة الجماهير، وتحمُّل تبعتها. ويقيني أنه لو أنفق الجيل المتصّدر، والذي نُكبت به الحركات الإسلاميّة في العالم العربي؛ بعضًا من الوقت الذي أهدره في تُرَّهاته السياسيّة طوال أربعة عقود، لو أنفق بعضًا من أعوام التيه في جهدٍ حقيقي مشابه للجهد الذي تكبَّده الإيرانيون في بناء وعي جيل الثورة، لكان حالنا غير الحال. وإذا كان التاريخ لا يعود القهقري أبدا؛ فرُبّما كانت الفرصة سانحة اﻵن لجيل جديد لتسلُّم قياد الحركة الإسلاميّة، وإعادة توجيه دفّتها في مفترق الطرق.